أخر المقالات
تحميل...
ضع بريدك هنا وأحصل على أخر التحديثات!

عـــالــمـك الــخـاص بـــك!.

عن الحسد

تعريف الحسد

1- الْحَسَدُ بِفَتْحِ السِّينِ أَكْثَرُ مِنْ سُكُونِهَا مَصْدَرُ حَسَدَ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ زَوَالَ نِعْمَةِ الْمَحْسُودِ. وَأَمَّا مَعْنَى الْحَسَدِ فِي الِاصْطِلَاحِ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ.

(الْأَلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ):
أ - التَّمَنِّي:
2- التَّمَنِّي فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَنَا، وَهُوَ الْقَدَرُ؛ لِأَنَّ الْمُتَمَنِّيَ يُقَدِّرُ حُصُولَ الْأَمْرِ، وَالِاسْمُ الْمُنْيَةُ، وَالْأَمْنِيَّةُ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ طَلَبُ حُصُولِ الشَّيْءِ سَوَاءٌ كَانَ مُمْكِنًا أَوْ مُمْتَنِعًا، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَسَدِ هِيَ أَنَّ الْحَسَدَ نَوْعٌ مِنْهُ كَمَا ذَكَرَ الزَّرْكَشِيّ فِي الْمَنْثُورِ.
ب - الْحِقْدُ:
3- الْحِقْدُ فِي اللُّغَةِ الِانْطِوَاءُ عَلَى الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ حَقَدَ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَفِي لُغَةٍ مِنْ بَابِ تَعِبَ وَجَمْعُهُ أَحْقَادٌ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ طَلَبُ الِانْتِقَامِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْغَضَبَ إذَا لَزِمَ كَظْمُهُ لِعَجْزٍ عَنْ التَّشَفِّي فِي الْحَالِ رَجَعَ إلَى الْبَاطِنِ وَاحْتَقَنَ فِيهِ فَصَارَ حِقْدًا. وَسُوءُ الظَّنِّ فِي الْقَلْبِ عَلَى الْخَلَائِقِ لِأَجْلِ الْعَدَاوَةِ فَهُوَ ثَمَرَةُ الْغَضَبِ، وَالْحَسَدُ ثَمَرَتُهُ؛ لِأَنَّ الْحِقْدَ يُثْمِرُ ثَمَانِيَةَ أُمُورٍ مِنْ بَيْنِهَا الْحَسَدُ، وَبَيَانُ ذَلِكَ كَمَا جَاءَ فِي الْإِحْيَاءِ أَنَّ الْحِقْدَ يُخْمِلُ صَاحِبَهُ عَلَى تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ عَدُوِّهِ فَيَغْتَمُّ بِالنِّعْمَةِ الَّتِي تُصِيبُهُ وَيُسَرُّ بِالْمُصِيبَةِ الَّتِي تَنْزِلُ بِهِ.
ج- الشَّمَاتَةُ:
4- الشَّمَاتَةُ فِي اللُّغَةِ الْفَرَحُ بِمَا يَنْزِلُ بِالْغَيْرِ مِنْ الْمَصَائِبِ، وَالشَّمَاتَةُ وَالْحَسَدُ يَتَلَازَمَانِ؛ لِأَنَّ الْحَسُودَ يَفْرَحُ بِمَصَائِبِ الْغَيْرِ .
د - عَيْنٌ:
5- الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْإِصَابَةُ بِالْعَيْنِ الَّتِي يُسَمَّى صَاحِبُهَا عَائِنًا، يُقَالُ تَعَيَّنَ الرَّجُلُ الْمَالَ إذَا أَصَابَهُ بِعَيْنٍ، وَعِنْتُ الرَّجُلَ أَصَبْته بِعَيْنِي، فَأَنَا عَائِنٌ وَهُوَ مَعِينٌ وَمَعْيُونٌ. وَالْحَاسِدُ وَالْعَائِنُ يَشْتَرِكَانِ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ وَتَتَوَجَّهُ نَحْوَ مَنْ تُرِيدُ أَذَاهُ , إلَّا أَنَّ الْعَائِنَ تَتَكَيَّفُ نَفْسُهُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَالْمُعَايَنَةِ، وَالْحَاسِدُ يَحْصُلُ جَسَدُهُ فِي الْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ، وَأَيْضًا الْعَائِنُ قَدْ تُزَالُ مَا لَا يَحْسُدُهُ مِنْ حَيَوَانٍ وَزَرْعٍ وَإِنْ كَانَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ حَسَدِ مَالِكِهِ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: الْحَسَدُ أَصْلُ الْإِصَابَةِ بِالْعَيْنِ. وَقَدْ تُزَالُ الرَّجُلُ نَفْسَهُ، وَقَدْ تُزَالُ بِغَيْرِ إرَادَتِهِ بَلْ بِطَبْعِهِ وَهَذَا أَرْدَأُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ.
هـ - الْغِبْطَةُ:
6 - الْغِبْطَةُ تُسَمَّى حَسَدًا مَجَازًا، وَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ حُسْنُ الْحَالِ، وَهِيَ اسْمٌ مِنْ غَبَطْته غِبْطًا مِنْ بَابِ ضَرَبَ إذَا تَمَنَّيْت مِثْلَ مَا نَالَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُرِيدَ زَوَالَهُ عَنْهُ لِمَا أَعْجَبَك مِنْهُ وَعَظُمَ عِنْدَك. وَأَمَّا مَعْنَاهَا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ كَمَعْنَاهَا فِي اللُّغَةِ، أَيْ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ عَنْهُ، وَالْحِرْصُ عَلَى هَذَا يُسَمَّى مُنَافَسَةً، فَإِنْ كَانَ فِي الطَّاعَةِ فَهُوَ مَحْمُودٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ مَذْمُومٌ، وَإِنْ كَانَ فِي الْجَائِزَاتِ فَهُوَ مُبَاحٌ .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
ومن أمراض القلوب الحسد كما قال بعضهم في حده إنه أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الاغنياء فلا يجوز أن يكون الفاضل حسودا لأن الفاضل يجرى على ما هو الجميل وقد قال طائفة من الناس إنه تمنى زوال النعمة عن المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها بخلاف الغبطة فإنه تمنى مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط والتحقيق أن الحسد هو البغض والكراهة لما يراه من حسن حال المحسود (أمراض القلوب: ج1، ص14).
قال الشافعي:
الحسد إنما يكون من لؤم العنصر وتعادي الطبائع واختلاف التركيب وفساد مزاج البنية وضعف عقد العقل الحاسد طويل الحسرات عادم الدرجات.

أقسام الحسد ومراتبه

أَقْسَامُ الْحَسَدِ:

ذَكَرَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ أَنَّ الْحَسَدَ قِسْمَانِ:

أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ: وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا.
وَالثَّانِي مَجَازِيٌّ: وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عِنْدَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْمُسَمَّى: بِالْغِبْطَةِ.


مَرَاتِبُ الْحَسَدِ:

مَرَاتِبُ الْحَسَدِ أَرْبَعَةٌ:

الْأُولَى: أَنْ يُحِبَّ الْحَاسِدُ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ، وَهَذَا غَايَةُ الْخُبْثِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يُحِبَّ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْ الْمَحْسُودِ إلَيْهِ لِرَغْبَتِهِ فِي تِلْكَ النِّعْمَةِ، مِثْلُ رَغْبَتِهِ فِي دَارٍ حَسَنَةٍ، أَوْ امْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ، أَوْ وِلَايَةٍ نَافِذَةٍ، أَوْ سَعَةٍ نَالَهَا غَيْرُهُ وَهُوَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَهُ وَمَطْلُوبُهُ تِلْكَ النِّعْمَةُ لَا زَوَالُهَا عَنْهُ، وَمَكْرُوهُهُ فَقْدُ النِّعْمَةِ لَا تَنَعُّمُ غَيْرِهِ بِهَا.

الثَّالِثَةُ: أَنْ لَا يَشْتَهِيَ الْحَاسِدُ عَيْنَ النِّعْمَةِ لِنَفْسِهِ بَلْ يَشْتَهِي مِثْلَهَا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ مِثْلِهَا أَحَبَّ زَوَالَهَا كَيْ لَا يَظْهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا.

الرَّابِعَةُ: الْغِبْطَةُ، وَهِيَ أَنْ يَشْتَهِيَ لِنَفْسِهِ مِثْلَ النِّعْمَةِ، فَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ فَلَا يُحِبُّ زَوَالَهَا عَنْهُ .

وَهَذَا الْأَخِيرُ هُوَ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ إنْ كَانَ فِي شَأْنٍ دُنْيَوِيٍّ، وَالْمَنْدُوبُ إلَيْهِ إنْ كَانَ فِي شَأْنٍ دِينِيٍّ، وَالثَّالِثَةُ فِيهَا مَذْمُومٌ وَغَيْرُ مَذْمُومٍ، وَالثَّانِيَةُ أَخَفُّ مِنْ الثَّالِثَةِ، وَالْأُولَى مَذْمُومَةٌ مَحْضَةٌ. وَتَسْمِيَةُ هَذِهِ الرُّتْبَةِ الْأَخِيرَةِ حَسَدًا فِيهِ تَجَوُّزٌ وَتَوَسُّعٌ، وَلَكِنَّهُ مَذْمُومٌ لقوله تعالى: "وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ" فَتَمَنِّيهِ لِمِثْلِ ذَلِكَ غَيْرُ مَذْمُومٍ، وَأَمَّا تَمَنِّيهِ عَيْنَ ذَلِكَ فَهُوَ مَذْمُومٌ.

أسباب الحسد

سَبَبُ الْحَسَدِ أَنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ التَّرَفُّعِ عَلَى الْجِنْسِ، فَإِذَا رَأَى لِغَيْرِهِ مَا لَيْسَ لَهُ أَحَبَّ أَنْ يَزُولَ ذَلِكَ عَنْهُ إلَيْهِ لِيَرْتَفِعَ عَلَيْهِ أَوْ مُطْلَقًا لِيُسَاوِيَهُ.
وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي الْإِحْيَاءِ سَبْعَةَ أَسْبَابٍ لِلْحَسَدِ:
السَّبَبُ الْأَوَّلُ: الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ، وَهَذَا أَشَدُّ أَسْبَابِ الْحَسَدِ، فَإِنَّ مَنْ آذَاهُ شَخْصٌ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَخَالَفَهُ فِي غَرَضٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَبْغَضَهُ قَلْبُهُ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ، وَرَسَخَ فِي نَفْسِهِ الْحِقْدُ. وَالْحِقْدُ يَقْتَضِي التَّشَفِّيَ وَالِانْتِقَامَ فَإِنْ عَجَزَ عَنْ أَنْ يَتَشَفَّى بِنَفْسِهِ أَحَبَّ أَنْ يَتَشَفَّى مِنْهُ الزَّمَانُ.
السَّبَبُ الثَّانِي: التَّعَزُّزُ، وَهُوَ أَنْ يَثْقُلَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَرَفَّعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، فَإِذَا أَصَابَ بَعْضُ أَمْثَالِهِ وِلَايَةً أَوْ عِلْمًا أَوْ مَالًا خَافَ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ، وَهُوَ لَا يُطِيقُ تَكَبُّرَهُ، وَلَا تَسْمَحُ نَفْسُهُ بِاحْتِمَالِ صَلَفِهِ وَتَفَاخُرِهِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ، بَلْ غَرَضُهُ أَنْ يَدْفَعَ كِبْرَهُ، فَإِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمُسَاوَاتِهِ مَثَلًا، وَلَكِنْ لَا يَرْضَى بِالتَّرَفُّعِ عَلَيْهِ.
السَّبَبُ الثَّالِثُ: الْكِبْرُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي طَبْعِهِ أَنْ يَتَكَبَّرَ عَلَيْهِ وَيَسْتَصْغِرَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ وَيَتَوَقَّعَ مِنْهُ الِانْقِيَادَ لَهُ وَالْمُتَابَعَةَ فِي أَغْرَاضِهِ، وَمِنْ التَّكَبُّرِ وَالتَّعَزُّزِ كَانَ حَسَدُ أَكْثَرِ الْكُفَّارِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ قَالُوا: كَيْفَ يَتَقَدَّمُ عَلَيْنَا غُلَامٌ يَتِيمٌ وَكَيْفَ نُطَأْطِئُ رُءُوسَنَا لَهُ فَقَالُوا: "لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ" (الزخرف: 31).
السَّبَبُ الرَّابِعُ: التَّعَجُّبُ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ إذْ قَالُوا: "مَا أَنْتُمْ إلَّا بِشْرٌ مِثْلُنَا" (يس:15). وَقَالُوا: "أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا" (المؤمنون: 47) - "وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إنَّكُمْ إذًا لَخَاسِرُونَ" (المؤمنون:34)، فَتَعَجَّبُوا مِنْ أَنْ يَفُوزَ بِرُتْبَةِ الرِّسَالَةِ وَالْوَحْيِ وَالْقُرْبِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَشَرٌ مِثْلُهُمْ فَحَسَدُوهُمْ، وَأَحَبُّوا زَوَالَ النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ جَزَعًا أَنْ يُفَضَّلَ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ مِثْلُهُمْ فِي الْخِلْقَةِ، لَا عَنْ قَصْدِ تَكَبُّرٍ، وَطَلَبِ رِئَاسَةٍ , وَتَقَدُّمِ عَدَاوَةٍ , أَوْ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ سَائِرِ الْأَسْبَابِ.
السَّبَبُ الْخَامِسُ: الْخَوْفُ مِنْ فَوْتِ الْمَقَاصِدِ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمُتَزَاحِمَيْنِ عَلَى مَقْصُودٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَحْسُدُ صَاحِبَهُ فِي كُلِّ نِعْمَةٍ تَكُونُ عَوْنًا لَهُ فِي الِانْفِرَادِ بِمَقْصُودِهِ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَحَاسُدُ الضَّرَائِرِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى مَقَاصِدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَتَحَاسُدُ الْإِخْوَةِ فِي التَّزَاحُمِ عَلَى نَيْلِ الْمَنْزِلَةِ فِي قَلْبِ الْأَبَوَيْنِ .
السَّبَبُ السَّادِسُ: حُبُّ الرِّئَاسَةِ وَطَلَبُ الْجَاهِ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَصُّلٍ بِهِ إلَى مَقْصُودٍ، وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ الَّذِي يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ عَدِيمَ النَّظِيرِ فِي فَنٍّ مِنْ الْفُنُونِ إذَا غَلَبَ عَلَيْهِ حُبُّ الثَّنَاءِ وَاسْتَفَزَّهُ الْفَرَحُ بِمَا يُمْدَحُ بِهِ، فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ بِنَظِيرٍ لَهُ فِي أَقْصَى الْعَالَمِ لَسَاءَهُ ذَلِكَ، وَأَحَبَّ مَوْتَهُ، أَوْ زَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْهُ .
السَّبَبُ السَّابِعُ: خُبْثُ النَّفْسِ وَشُحُّهَا بِالْخَيْرِ لِعِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّك تَجِدُ مَنْ لَا يَشْتَغِلُ بِرِيَاسَةٍ وَتَكَبُّرٍ وَلَا طَلَبِ مَالٍ، إذَا وُصِفَ عِنْدَهُ حُسْنُ حَالِ عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَإِذَا وُصِفَ لَهُ اضْطِرَابُ أُمُورِ النَّاسِ، وَإِدْبَارُهُمْ، وَفَوَاتُ مَقَاصِدِهِمْ، وَتَنَغُّصُ عَيْشِهِمْ فَرِحَ بِهِ، فَهُوَ أَبَدًا يُحِبُّ الْإِدْبَارَ لِغَيْرِهِ، وَيَبْخَلُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ كَأَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ وَخَزَائِنِهِ.

منشأ الحسد

منشأ الحسد وبدايته من إبليس على آدم عليه السلام قال أاسجد لمن خلقت طيناً فحسده وذريته وكاد ذريته بجنده يوسوسون في صدور الناس بالحقد والحسد وبدأ بابني آدم عليه السلام وكانت أول حادثة قتل في التاريخ بسبب الحسد.

حكم الحسد وعقوبته


الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
الْحَسَدُ إنْ كَانَ حَقِيقِيًّا، أَيْ بِمَعْنَى تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ؛ لِأَنَّهُ اعْتِرَاضٌ عَلَى الْحَقِّ، وَمُعَانَدَةٌ لَهُ، وَمُحَاوَلَةٌ لِنَقْضِ مَا فَعَلَهُ، وَإِزَالَةُ فَضْلِ اللَّهِ عَمَّنْ أَهَّلَهُ لَهُ، وَالْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ.
أَمَّا الْكِتَابُ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ" (الفلق:5).
فَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ الْحَاسِدِ، وَشَرُّهُ كَثِيرٌ، فَمِنْهُ مَا هُوَ غَيْرُ مُكْتَسَبٍ وَهُوَ إصَابَةُ الْعَيْنِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُكْتَسَبٌ كَسَعْيِهِ فِي تَعْطِيلِ الْخَيْرِ عَنْهُ وَتَنْقِيصِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَرُبَّمَا دَعَا عَلَيْهِ أَوْ بَطَشَ بِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْحَاسِدِ الَّذِي وَرَدَ الْأَمْرُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِ: فَقَالَ قَتَادَةَ: الْمُرَادُ شَرُّ عَيْنِهِ وَنَفْسِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ أُمِرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ الْيَهُودِ الَّذِينَ حَسَدُوهُ، وَالْأَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ.
كَمَا قَالَ الطَّبَرِيُّ: (إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بِأَنْ يَسْتَعِيذَ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ). وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخْصُصْ مِنْ قَوْلِهِ: "وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ" (الفلق: 5) حَاسِدًا دُونَ حَاسِدٍ بَلْ عَمَّ أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّ كُلِّ حَاسِدٍ فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ. وَالْحَاسِدُ كَمَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَدُوُّ نِعْمَةِ اللَّهِ.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ بَارَزَ الْحَاسِدُ رَبَّهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَبْغَض كُلَّ نِعْمَةٍ ظَهَرَتْ عَلَى غَيْرِهِ.
ثَانِيهَا: أَنَّهُ سَاخِطٌ لِقِسْمَةِ رَبِّهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ: لِمَ قَسَمْت هَذِهِ الْقِسْمَةَ؟
ثَالِثُهَا: أَنَّهُ ضَادَّ فِعْلَ اللَّهِ، أَيْ إنَّ فَضْلَ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ يَبْخَلُ بِفَضْلِ اللَّهِ.
وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ خَذَلَ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ، أَوْ يُرِيدُ خِذْلَانَهُمْ وَزَوَالَ النِّعْمَةِ عَنْهُمْ.
وَخَامِسُهَا: أَنَّهُ أَعَانَ عَدُوَّهُ إبْلِيسَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (إيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ أَوْ الْعُشْبَ).
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَإِنَّ الْحَاسِدَ مَذْمُومٌ، فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحَاسِدَ لَا يَنَالُ فِي الْمَجَالِسِ إلَّا نَدَامَةً، وَلَا يَنَالُ عِنْدَ الْمَلَائِكَةِ إلَّا لَعْنَةً وَبَغْضَاءَ، وَلَا يَنَالُ فِي الْخَلْوَةِ إلَّا جَزَعًا وَغَمًّا، وَلَا يَنَالُ فِي الْآخِرَةِ إلَّا حُزْنًا وَاحْتِرَاقًا، وَلَا يَنَالُ مِنْ اللَّهِ إلَّا بُعْدًا وَمَقْتًا.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ تَحْرِيمِ الْحَسَدِ مَا إذَا كَانَتْ النِّعْمَةُ الَّتِي يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ زَوَالَهَا عِنْدَ كَافِرٍ أَوْ فَاسِقٍ يَسْتَعِينُ بِهَا عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى. أَمَّا إذَا كَانَ الْحَسَدُ مَجَازِيًّا، أَيْ بِمَعْنَى الْغِبْطَةِ فَإِنَّهُ مَحْمُودٌ فِي الطَّاعَةِ، وَمَذْمُومٌ فِي الْمَعْصِيَةِ، وَمُبَاحٌ فِي الْجَائِزَاتِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ) أَيْ كَأَنَّهُ قَالَ: لَا غِبْطَةَ أَعْظَمُ أَوْ أَفْضَلُ مِنْ الْغِبْطَةِ فِي هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ.
الْقَدْرُ الْمَعْفُوُّ عَنْهُ مِنْ الْحَسَدِ وَعَكْسُهُ وَمَا فِيهِ خِلَافٌ:
ذَكَرَ الْغَزَالِيُّ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُمْكِنُهُ نَفْيُ الْحَسَدِ عَنْ قَلْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَبْقَى دَائِمًا فِي نِزَاعٍ مَعَ قَلْبِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَبْقَى فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْحَسَدِ لِأَعْدَائِهِ، وَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ لِلشَّخْصِ فِي أَعْدَائِهِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُحِبَّ مَسَاءَتَهُمْ بِطَبْعِهِ، وَيَكْرَهَ حُبَّهُ لِذَلِكَ وَمَيْلَ قَلْبِهِ إلَيْهِ بِعَقْلِهِ، وَيَمْقُتَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَيَوَدَّ لَوْ كَانَتْ لَهُ حِيلَةٌ فِي إزَالَةِ ذَلِكَ الْمَيْلِ مِنْهُ، وَهَذَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ قَطْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الِاخْتِيَارِ أَكْثَرُ مِنْهُ.
الثَّانِي: أَنْ يُحِبَّ ذَلِكَ وَيُظْهِرَ الْفَرَحَ بِمَسَاءَتِهِ إمَّا بِلِسَانِهِ أَوْ بِجَوَارِحِهِ فَهَذَا. هُوَ الْحَسَدُ الْمَحْظُورُ قَطْعًا.
الثَّالِثُ: وَهُوَ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ أَنْ يَحْسُدَ بِالْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ مَقْتٍ لِنَفْسِهِ عَلَى حَسَدِهِ، وَمِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ مِنْهُ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَكِنْ يَحْفَظُ جَوَارِحَهُ عَنْ طَاعَةِ الْحَسَدِ فِي مُقْتَضَاهُ، وَهَذَا فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ إثْمٍ بِقَدْرِ قُوَّةِ ذَلِكَ الْحُبِّ وَضَعْفِهِ.

أضرار الحسد ومساوئه

  1. خلق ذميم مع إضراره بالبدن وإفساده للدين.
  2. ليس لحسد الحاسد حد بل يطول به القريب والبعيد.
  3. لايترك أحداً إلا حسده حتى نفسه لاتسلم منه حتى قيل وعجب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله.
  4. الحسد يذيب النفس ويذهب بفضائلها.
  5. الحاسد يعادي الله ويعادي نعمه وحكمه.
  6. الحسد بسبب البغض يفضي إلى النزاع والتقاتل.
  7. الحسد داعية النكد سئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الحسد والنكد أيهما شر؟ فقال: (الحسد داعية للنكد إبليس حسد آدم فصار حسده سبب نكده فأصبح لعيناً بعد أن كان مكيناً).
  8. ينشؤ عن الحسد إفساد الطاعات وفعل المعاصي والشرور.

الحسد طبيعة في الإنسان فقومها

رأيت الناس يذمون الحاسد ويبالغون ويقولون: لا يحسد إلا شرير يعادي نعمة الله، ولا يرضى بقضائه، ويبخل على أخيه المسلم.
فنظرت في هذا فما رأيته كما يقولون، وذاك أن الإنسان لا يحب أن يرتفع عليه أحد، فإذا رأى صديقه قد علا عليه تأثر هو ولم يحب أن يرتفع عليه، وود لو لم ينل صديقه ما ينال، أو أن ينال هو ما نال ذاك لئلا يرتفع عليه و هذا معجون في الطين، ولا لوم على ذلك.
إنما اللوم أن يعمل بمقتضاه من قول أو فعل. وكنت أظن أن هذا قد وقع لي عن سري و فحصي، فرأيت الحديث عن الحسن البصري قد سبقني إليه.
قال: أخبرنا عبد الخالق بن عبد الصمد، قال: أخبرنا ابن النقود، قال: أخبرنا المخلص، قال: حدثنا البغوي، قال: حدثنا أبو روح، قال: حدثنا مخلد بن الحسين، عن هشام عن الحسن، قال: (ليس من ولد آدم إلا وقد خلق معه الحسد... !).
والعزلة عن الخلق سبب طيب العيش. ولابد من مخالطة بمقدار، فدار العدو واستحله، فربما كادك فأهلكك. وأحسن إلى من أساء إليك. وإستعن على أمورك بالكتمان، ولتكن الناس عندك معارف، فأما أصدقاء فلا.
لأن أعز الأشياء وجود صديق، ذاك أن الصديق يجب أن يكون في مرتبة مماثل. فإن صادفته عامياً لم تنتفع به لسوء أخلاقه، وقلة علمه وأدبه، وإن صادفت مـماثلاً أو مقارباً حسدك. وإذا كان لك يقظة تلمحت من أفعاله وأقواله ما يدل على حسدك (ولتعرفنهم في لحن القول). وإذا أردت تأكيد ذلك فضع عليه من يضعك عنده. فلا يحرج إليه إلا بما في قلبه. فإن أردت العيش فابعد عن الحسود؛ لأنه يرى نعمتك، فربما أصابها بالعين. فإن إضطررت إلى مخالطته فلا تفش له سرك ولا تشاوره، ولا يغرنك تملقه لك، ولا ما يظهره من الدين والتعبد، فإن الحسد يغلب الدين.
وقد عرفت أن قابيل أخرجه الحسد إلى القتل. وإن أخوة يوسف باعوه بثمن بخس. وكان أبو عامر الراهب من المتعبدين العقلاء، وعبد الله بن أبي من الرؤساء، أخرجهما حسد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النفاق وترك الصواب. ولا ينبغي أن تطلب لحاسدك عقوبة أكثر مما هو فيه، فإنه في أمر عظيم متصل لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وكلما إمتدت إمتد عذابه، فلا عيش له.
وما طاب عيش أهل الجنة إلا حين نزع الحسد والغل من صدورهم. ولولا أنه نزع تحاسدوا وتنغص عيشهم. فمن لم يجاوز ذلك بقول و لا بفعل لم يتبعه شيء!. (صيد الخاطر: ج1، ص: 430).
لما ظهرت فضائل آدم عليه السلام على الخلائق بسجود الملائكة له وبتعليمه أسماء كل شيء وإخباره الملائكة بها وهم يستمعون له كاستماع المتعلم من معلمه، حتى أقروا بالعجز عن علمه وأقروا له بالفضل وأسكن هو وزوجته الجنة، ظهر الحسد من إبليس وسعى في الأذى.
وما زالت الفضائل إذا ظهرت تحسد:
لا مات حسادك بل خلدوا حتى يروا منك الذي يكمد.
لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامـل من يحسـد.
فمازال يحتال على آدم حتى تسبب في إخراجه من الجنة وما فهم الأبله أن آدم إذا خرج منها كملت فضائله ثم عاد إلى الجنة على أكمل من حاله الأول، إنما أهلك إبليس العجب بنفسه ولذلك قال أنا خير منه، وإنما كملت فضائل آدم باعترافه على نفسه: "قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا" (الأعراف: 23). كان إبليس كلما أوقد نار الحسد لآدم فاح بها ريح طيب آدم واحترق إبليس وإذا أراد الله نشر فضيـلة طويت أتاح لها لسـان حسود.
لولا اشتعال النار فيما جاورت ماكان يعرف طيب عرف العود.

كثرة الحسد بين الأمثال والإخوة

بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والإخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه:

اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة، وكذلك في محلتين نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما فيثور من التناقض التنافر والتباغض ومنه تثور بقية أسباب الحسد.
ولذلك ترى العالِم يحسد العالِم دون العابِد، والعابِد يحسد العابِد دون العالِم، والتاجِر يحسد التاجِر بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة.
ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب. والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته؛ لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون وإنما ينازعه فيه بزاز آخر، إذ حريف البزاز لا يطلبه الإسكاف بل البزاز ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق فلا جرم يكون حسده للجار أكثر.
وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم؛ لأن مقصده أن يُذكَر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب؛ لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص. فأصل هذه المحاسدات العداوة وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين فلذلك يكثر الحسد بينهما نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه، فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين أما الآخرة فلا ضيق فيها وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحب معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضًا؛ لأن المعرفة لا تضيق على العارفين بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالِم ويفرح بمعرفته، ويلتذ به ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة؛ لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضًا فيما عند الله تعالى؛ لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم، نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا؛ لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالِم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة، فيكون ذلك سببا للمحاسدة. وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتليء قلب غيره بها، وأن يفرح بذلك والفرق بين العلم والمال: أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى. والعلم في قلب العالِم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه. والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع ما في الأرض لم يبق بعده.
مال يتملكه غيره والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه فمن عود نفسه الفكر في جلال الله، وعظمته، وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم ولم يكن ممنوعًا منه ولا مزاحمًا فيه فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق؛ لأن غيره أيضا لو عرَف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار الجنة، وبساتينها بالعين الظاهرة، فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته يأمن زوالها وهو أبدًا يجني ثمارها فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه، وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة، بل قطوفها دانية، فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبدا ترتع في جنة عالية، ورياض زاهرة فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين، بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانًا على سرر متقابلين فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء ومشاهدة المحبوب في العقبى فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة، ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة؛ لأن الجنة لا مضايقة فيها، ولا مزاحمة، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضًا فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا، والآخرة جميعًا بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين.

علاج داء الحسد

بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب:
اعلم أنّ الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل والعلم النافع لمرض الحسد:
هو أن تعرف تحقيقًا أنّ الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين، بل ينتفع به فيهما ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة.
أما كونه ضررًا عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى وكرهت نعمته التي قسّمها بين عباده وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته فاستنكرت ذلك، واستبشعته وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان وناهيك بهما جناية على الدين وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب وتمحوها كما يمحو الليل والنهار، وأما كونه ضررا عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم فلا تزال تتعذب بكل نعمة تراها وتتألم بكل بلية تنصرف عنهم فتبقى مغموما محروما متشعب القلب ضيق الصدر قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقدا ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلا أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة.
فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله، بل مع ضرر يحتمله، وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة، وأما أنه ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح؛ لأن النعمة لاتزول عنه بحسدك بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة، فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه فلا حيلة في دفعه بل كل شيء عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي: ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغييره، فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها، ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا، ولا يكون عليه إثم في الآخرة ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي، وهذا غاية الجهل، فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك فإنك أيضًا لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة، ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضًا؛ لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان قال الله تعالى: "وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ". إذ ما يريد الحسود لا يكون نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر. فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد، فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم. وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة.
فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضًا يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها، وأنت بجهلك تكرهها. وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح، أما منفعته في الدين فهو أنه مظلوم من جهتك لاسيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكر مساويه فهذه هدايا تهديها إليه، أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلسًا محرومًا عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل نعم كان لله عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة. وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة؛ بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم ولذلك لا يشتهي عدوك موتك، بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه، فيتقطع قلبك حسدًا ولذلك قيل لا مات أعداؤك بل خلدوا حتى يروا فيك الذي يكمد.
لا زلت محسودًا على نعمة فإنما الكامل من يحسد، ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته ولو عَلِم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبلية عنده فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة، وصرت مذمومًا عند الخالق والخلائق شقيا في الحال والمآل ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك؛ لأنه لما رآك محرومًا من نعمة العلم، والورع، والجاه، والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة؛ لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكـًا في الخير ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا، لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك.
وقد قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).
حديث الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال: هو مع من أحب متفق عليه من حديث ابن مسعود وقام أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فقال: (ما أعددت لها؟) قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت) حديث سؤال الأعرابي متى الساعة؟ فقال ما أعددت لها الحديث متفق عليه من حديث أنس قال أنس: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ، إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله. قال أنس: فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم. وقال أبو موسى قلت: يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم حتى عد أشياء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هو مع من أحب)حديث أبي موسى قلت: يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي الحديث وفيه هو مع من أحب متفق عليه. من حديث بلفظ آخر مختصرًا (الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم قال المرء مع من أحب).
وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: (إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالمًا فكن عالمًا فإن لم تستطع أن تكون عالمًا، فكن مُتعلمًا، فإن لم تستطع أن تكون مُتعلمًا فأحبِّهم فإن لم تستطع فلا تبغضهم فقال: سبحان الله الذي جعل الله لنا مخرجا فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب ثم لم يقنع به حتى بغَّض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطيء في دين الله تعالى وينكشف خطؤه؛ ليفتضح وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك، فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة.
وقد جاء في الحديث (أهل الجنة ثلاثة: المحسن والمحب له والكاف عنه) حديث أهل الجنة ثلاثة المحسن والمحب له والكاف عنه لم أجد له أصلا أي: من يكف عن الأذى والحسد والبغض والكراهة، فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها ألبتة فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهما إلى عدوه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمنى فيقلعها فيزيد غضبه، فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه فيعود على رأسه فيشجه وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى وأعداؤه حوله يفرحون به، ويضحكون عليه، وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه. بل حالك في الحسد أقبح من هذا؛ لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة والحسد يعود بالإثم، والإثم لا يفوت بالموت ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار. فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقًا لقوله تعالى: "وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ". وربما يبتلى بعين ما يشتهيه لعدوه، وقلما يشمت شامت بمساءة إلا ويُبتلى بمثلها. حتى قالت عائشة رضي الله عنها: (ما تمنيت لعثمان شيئًا إلا نزل بي حتى لو تمنيت له القتل لقتلت)، فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه الحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صافٍ وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك نفسه، ومفرح عدوه، ومسخط ربه، ومنغص عيشه، وأما العمل النافع فيه فهو: أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه وتولد من ذلك الموافقه التي تقطع مادة الحسد؛ لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان. ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصير ما تكلفه أولاً طبعًا آخرًا ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف، وأن ذلك مذلة ومهانة؛ وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة تكلفًا كانت أو طبعًا تكسر سورة العداوة من الجانبين وتقل مرغوبها، وتعود القلوب التآلف والتحاب وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد، وغم التباغض فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جدًا إلا أنها مرة على القلوب جدًا ولكن النفع في الدواء المر. فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينل حلاوة الشفاء. وإنما تهون مرارة هذا الدواء أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها، وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى، وحب ما أحبه وعزة النفس وترفُّعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل وعند ذلك يريد ما لا يكون إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة.
ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين:
إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون.
والأول: ليس إليك، ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه.
وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل وتحصيله بالرياضة ممكن فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي. فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر، وغيره، وعزة النفس، وشدة الحرص على ما لا يغني، وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى، فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة ولا يزال يعود مرة بعد أخرى، ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده؛ فإنه ما دام محبًا للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه، ويغمه ذلك لامحالة وإنّما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده، فأما الخلو عنه رأسًا فلا يمكنه والله الموفق.

شاركها مع أصدقائك!
تابعني→
أبدي اعجابك →
شارك! →

0 التعليقات :

Enregistrer un commentaire